د. أشرف غراب يكتب: روح أكتوبر.. وأرض التجلي

د. أشرف غراب
د. أشرف غراب

نعيش في تلك الأيام نسائم روح أكتوبر وذكرى مرور خمسون عاماً على هذا النصر العظيم الذي حطم فيه الجيش المصري أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وأصبح جيش العدوي الإسرائيلي فيما بين عشية وضحاها كأن لم يكن، بعد أن تهاوت قلاعه وسقط حصنه المنع وجداره الذي كان يختبئ خلفه، ليشهد ويشاهد العالم أجمع أن دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة..
ونحن نعيش ونحتفي باليوبيل الذهبي لانتصارات السادس من أكتوبر يحتفي العالم الإسلامي أجمع ونحن أيضاً في المقدمة بميلاد خير رسل الله قاطبة سيدنا ومولانا محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، لتمتزج قلوبنا وأرواحنا معا فرحا بالذكرتين العظيمتين، وكأنها هدية لمصر وشعبها.. نعم إنها «ميلاد النصر».
الاحتفاء بالمناسبتين المولد النبوي الشريف ونصر أكتوبر المجيد.. فميلاد رسول الله نصر مبين، فمولده صلى الله عليه وسلم هو أعظم إطلالة للرحمة الإلهية على البشرية جمعاء، مصداقا  لقول الله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ»، فمولده صلى الله عليه وسلم كان ميلاد صبح جديد أشرق على البشرية جمعاء بعد ليل طويل حالك الظلمات، كان ميلادًا للنصر على النفس والشهوات.. ميلادًا أعاد للبشرية توازنها وحررتها من قيود الجهالة والظلم والعبودية التي كانت لغير الله.
وعندما عصى عليه صلى الله عليه وسلم بني وطنه أهل "مكة"، وخرج منها مهاجراً كان حنينه إلى الوطن وقال "والله إنك لأحب أرض الله إلي، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت"، ثم عاد إليها فاتحاً منتصراً، وهو دليل على أن الوطن لا تفريط فيه.
وقديما كان هناك من إذا حملَتهم الحاجة إلى الترحال بعيدًا عن أوطانهم؛ اصطحب بعضُهم حَفناتٍ من تراب الوطن؛ يَتقوَّون بتَنشُّقها على وجع البِعاد.. إنه حب الوطن وهذه قضية لا ينفرد بها دين أو يحصيها قانون، فحب الوطن لدى الشخص قديمٌ قِدَمَ الوطن نفسه، يكبر وينمو مع نمو الشخص وكأنه جزء من عمره، بل هو حياته.. ولم لا ومن هنا لا يسمح أبدا لأي أحد أن يقترب من حياته أي وطنه.
وعندما احتلت إسرائيل في غفوة من الزمن شبه جزيرة سيناء، هذا الجزء من أرض الوطن، أرض التجلي الإلهي حيث اختارها الله عندما تحدَّث وتجلى فيها على سيدنا موسى عليه السلام، لم يرض المصريين بديلاً عن تحرير الأرض والقصاص من الغاصب، وبدأت آنذاك حرب الاستنزاف، تلك الحرب التي إن دلت فإنما تدل على أن مصر وشعبها أمة لا تستسلم أبدا، ولا تفرط في حبة من ترابها أو حقها.. بلد لا تفرط في أي شئ يخصها أو يحق لها، ومن هنا كان النصر.
حرب أكتوبر جاءت في وقت عصيب، فمن كان يرى أو حتى يدور في مخيلته في ذلك التوقيت أن مصر سوف تحارب أو أنها قادرة على القتال في ظروف يعلمها الجميع، بعدما فقدت معداتها وعتادها في حرب 67 فضلاً عن التفوق العسكري الإسرائيلي والدعم الغربي له، هذا بخلاف الحصن المنيع خط بارليف الذي بنته إسرائيل عقب حرب 67، وكلفها آنذاك 500 مليون دولار، وهو عبارة عن سلسلة من التحصينات الدفاعية التي كانت تمتد على طول الساحل الشرقي لقناة السويس، وكان الهدف الأساسي من بناء الخط هو تأمين الضفة الشرقية لقناة السويس ومنع عبور أي قوات مصرية إليها.

كانت إسرائيل تتستر خلف هذا الحصن المنيع، وأنه لم يقدر كائن من كان الاقتراب منه ولكن مشيئة الله قادرة ونافذة "فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا".
نعم وكان وعد ربي حقا، واستطاعت قواتنا المسلحة بمضخات المياه بفتح ثغرات في هذا الساتر الترابي المعقد بدون أن تخرج طلقة واحدة وباقتحامه هوت قوى العدو وفي ساعات معدودة كان الجيش المصري في عمق سيناء، والنتيجة لم تكن فقط استرداد أرضنا المحتلة، بل وتأمين حدودنا ولم يجرؤ العدو ولو للحظة واحدة على التفكير في المحاولة مرة أخرى أن يعود لمثل ما كان عليه.
ومن هنا أدرك العالم أجمع  أن مصر لها درع وسيف وبها جيش يقف مانعاً متأهب لقطع أيدي كل من تسول له نفسه اغتصاب شبر واحد من أرضه، فقواتنا المسلحة يحمل تاريخها صفحات مطوية تشع بريقاً من الفخر والشرف.. نعم تاريخ مسطر بالذهب مليئ بالبطولات والتضحية من أجل الزود عن الوطن والدفاع عنه.
وبمناسبة ذكرى هذا النصر العظيم دعوني قرائي الأعزاء أن أتذكر وإياكم مقتطفات خالدة من خطاب الرئيس الراحل محمد أنور السادات- بطل الحرب والسلام، والذي قاله أمام الأمه تحت قبة البرلمان وتحديداً يوم 16 أكتوبر 1973، قال في خطابه: "ولست أتجاوز إذا قلت إن التاريخ العسكري سوف يتوقف طويلاً بالفحص والدرس أمام عملية يوم السادس من أكتوبر سنة 73 حين تمكنت القوات المسلحة المصرية من اقتحام مانع قناة السويس الصعب واجتياح خط بارليف المنيع وإقامة رؤوس جسور لها على الضفة الشرقية من القناة بعد أن أفقدت العدو توازنه.. في ست ساعات"..
وقال أيضاً: "لقد كنا نعرف عدونا دائماً ولسنا نريد أن نزيد من أعداءنا؛ بل إننا لنوجه الكلمة بعد الكلم والتنبيه بعد التنبيه، والتحذير بعد التحذير لكي نعطي للجميع فرصة يراجعون ولعلهم يتراجعون، لكننا بعون الله قادرون بعد الكلمة وبعد التنبيه وبعد التحذير أن نوجه الضربة بعد الضربة ولسوف نعرف متى وأين وكيف إذا أرادوا التصاعد فيما يفعلون